فما هو هذا الأجر العظيم الذي وعدهم الله تعالى؟ لا يصرح القرآن بماهية هذا الأجر لأنه يريد أن يكون لهم مفاجأة في فردوس فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.[14]
عن أنس رضى الله عنه: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت: يا رسول الله! قد عرفتَ منزلة حارثة مني، فإن يكُ في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال: «ويحكِ أَوَ هبلتِ؟ أَوَ جنةٌ واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه لفي جنة الفردوس.»[15]
كان هذا صحابياًّ شاباًّ من عامة الصحابة آمن فيما بعد، فإذا كان يحوز الفردوس -وهو أرفع درجات الجنة- فما بالك بكبار الصحابة الذين نقلوا إلينا السنة النبوية والحقيقة الأحمدية، وما بالك بمن يسند إليهم الكذب أو يراهم من أهل النار! ترى إلام يقود هذا الرأى؟
يقول القرآن الكريم أيضاً: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (التوبة: 100). وسيقول الله تعالى لكل نفس منهم: {يا أيتها النفس المطمئنة ` اِرجعي إلى ربك راضية مرضية ` فادخلي في عبادي ` وادخلي جنتي} (الفجر: 27-30). أجل، إن الله تعالى راضٍ عنهم ولو لم يرض عنهم البعض، وهم وإن استكثروا عليهم الجنة إلا أن الله {وأَعَدّ لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة: 100).
ترك المهاجرون ديارهم وبيوتهم وأوطانهم وهاجروا.. وقبل ذلك تركوا رغباتهم النفسية وهجروها.. هاجروا من المعصية إلى الطاعة، ومن رغبات النفس إلى صفاء الروح ومن مكة إلى المدينة. أما الأنصار فهم الأبرار الذين فتحوا لهم قلوبهم وصدورهم وبيوتهم، ولكي ندرك مدى احتضانهم لإخوانهم المهاجرين يكفي قراءة هذه الحادثة:
آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، فأخذ سعد أخاه عبد الرحمن إلى بيته وكانت له امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهلَهُ ومالَه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّوني على السوق. فأتى السوقَ فربح شيئاً من أقِطٍ وشيئاً من سَمْنٍ.[16] أجل، كان هذا هو نوع ونمط احتضانهم لإخوانهم.
ومثال آخر نراه في قصة الصحابي أبي هريرة رضى الله عنه الذي جاء من دَوْس وأسلم ولازم الرسول صلى الله عليه و سلم يستمع إليه لكي ينقل لنا السنة فيما بعد، كان يصوم نهاره ويقوم ليله،[17] وكان جائعاً أكثر أوقاته، وقد يبلغ به الجوع درجة كبيرة، فيبدأ يتلوى من الألم ومن ينظر إليه يحسبه مجنوناً، إذ يقول رضى الله عنه: “لقد رأيتني أُصرَع بين منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين حجرة عائشة فيقول الناس: إنه لَمجنون، وما بي جنون، وما بي إلا الجوع.”[18] ولم يكن أبو هريرة وحده يقاسي الفقر والجوع، بل كان هناك آخرون، ففي رواية عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسلَ إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ألا رجل يُضيّف هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله، لا تدّخريه شيئاً. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصِّبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالَيْ فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلتْ ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «لقد عجب الله عز و جل -أو- ضحك من فلان وفلانة فأنزل الله عز و جل: {ويُؤْثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة} (الحشر: 9).»[19]
أجل، لقد أحرزوا مستوى سامياً لا يخطر على خيال إنسان هذا العصر. كانت قلوبهم نقية طاهرة، ونفوسهم خالية من العوج، لذا أعلن الله تعالى عن رضاه عنهم وهم لا يزالون على قيد الحياة. فقد كانوا مؤمنين بحق، والله يحب المؤمنين ويرضى عنهم لذا، قال عنهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} (الفتح: 18).
لم يتراجع الصحابة الكرام عن عهدهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا عن بيعتهم التي بايعوه ولا عن عهدهم مع الله تعالى، بل صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبرهنوا على صدقهم هذا في كل حادثة وأمر، والقرآن الكريم يمدحهم ويخلد صدقهم هذا فيقول: {من المؤمنين رجال صدَقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} (الأحزاب: 23).
أجل، لقد عاهدوا على أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وفي سبيل الحصول على جنته وعلى رضوانه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فاستشهد قسم منهم في المعارك ولم يتراجعوا ولم يهربوا في القتال. فها هو حمزة يستشهد في معركة أُحد ويرقى إلى مرتبة سيد الشهداء. وها هو أنس بن النضر يستشهد في أحد أيضاً ويلقى ربه. وها هو عبد الله بن جحش ومصعب بن عمير وعشرات غيرهم استشهدوا في بدر وفي أُحد. استشهد هؤلاء وبقي وراءهم آخرون ينتظرون دورهم في الشهادة ويبحثون عنها، منهم أبو عقيل.. انتظر الشهادة في أُحد ثم انتظرها في فتح مكة، ثم انتظرها في معركة مؤتة، وأخيراً لقيها في معركة اليمامة.
لم يغيروا عهدهم الذي قطعوها على أنفسهم مع الله تعالى، ولم يتغيروا.. كانوا في اليوم الأخير من حياتهم مثل أول يوم عهدهم.. لم تغيرهم الدنيا ولم تفتنهم، ولم تلههم الشهوات، بل بقوا رجالاً صناديد حتى تمزقت أستار الظلام من قبل قافلة النور.
5- الصحابة في الأحاديث الشريفة
لقد خلد القرآن الكريم ذكرى الصحابة -الذين كانوا القنوات الطاهرة التي نقلت إلينا السنة- بثنائه عليهم. والآن لنطلع على الأحاديث الشريفة في حق الصحابة الكرام وكيف أثنت عليهم:
أ- جاء في رواية وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما من كتب الأحاديث الصحيحة عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه -وهو من شباب الصحابة الذين وقفوا أنفسهم لحفظ الحديث مثل أبي هريرة رضى الله عنه- جاء في هذه الرواية: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً، ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه.»[20]
ذلك لأنهم دافعوا عن الإسلام في أحلك وفي أصعب أيامه، لذا فأي قدح في حقهم لا يليق بأي مسلم، لذا فلا نستطيع نحن صرف أي كلام غير مناسب في حق الصحابة مثلما فعل منتسبو بعض المذاهب الباطلة بالأمس أو مثلما يفعل الآن بعض المستشرقين الذين أصبحت عداوة الإسلام دينهم، وبعض مقلديهم من المسلمين المساكين الذين أذهلهم التقدم المادي للغرب فأصبح هؤلاء المستشرفين قبلتهم ومحرابهم.
ب- يروي الترمذي عن عبد الله بن مغفَّل رضى الله عنه: «اللهَ اللهَ في أصحابي، اللهَ اللهَ في أصحابي. لا تتخذوهم غَرَضاً بعدي، فمن أحبهم فَبحبي أحَبّهُمْ ومن أبْغَضَهم فببغضي أبْغضَهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه.»[21